في قلب شرق أوسط مضطرب، تتكشف أزمة إنسانية وسياسية جديدة، أبطالها مئات المواطنين الأمريكيين الذين يجدون أنفسهم في سباق مع الزمن لمغادرة إيران. فمع تصاعد حدة التوترات بين إيران وإسرائيل، وإغلاق المجال الجوي الإيراني، لم يجد هؤلاء المواطنون، ومن بينهم مزدوجو الجنسية الذين يواجهون مخاطر جمة، سوى الطرق البرية الوعرة والمحفوفة بالمخاطر سبيلاً للوصول إلى بر الأمان. هذا المقال يغوص في أعماق هذه القضية، مستعرضاً الأبعاد الإنسانية لمأساة هؤلاء المواطنين، والتحديات الجسيمة التي تواجهها واشنطن في حماية رعاياها في بلد لا تربطها به أي علاقات دبلوماسية، فضلاً عن السياق الجيوسياسي المعقد الذي يؤطر هذا النزوح الجماعي. سنستعرض تفاصيل رحلة الخروج الصعبة، ونحلل الوضع القانوني الدقيق لمزدوجي الجنسية، ونلقي نظرة على التاريخ الطويل من انعدام الثقة الذي يسمم العلاقات بين البلدين، ليقدم للقارئ العربي فهماً شاملاً ومتعمقاً لأزمة تتجاوز مجرد عناوين الأخبار.
حرب في الأجواء ونزوح على الأرض
اندلعت شرارة الأزمة الأخيرة مع اندلاع “حرب جوية” بين إسرائيل وإيران في منتصف يونيو 2025، وهي مواجهة مباشرة أثارت قلقاً بالغاً في منطقة تعيش أصلاً على وقع توترات متصاعدة منذ أشهر. وعلى إثر هذه الحرب، أُغلق المجال الجوي الإيراني، مما أدى إلى تقطع السبل بمئات المواطنين الأمريكيين المقيمين في البلاد. وبحسب برقية داخلية مسربة من وزارة الخارجية الأمريكية، بدأ مئات المواطنين الأمريكيين رحلة خروج جماعية عبر المنافذ البرية نحو الدول المجاورة. وقد حثت الخارجية الأمريكية رعاياها الراغبين في المغادرة على استخدام الطرق البرية عبر أذربيجان أو أرمينيا أو تركيا، في ظل إغلاق المجال الجوي.
لكن هذا الخروج لم يكن سهلاً على الإطلاق. فقد أفادت التقارير بأن العديد من المواطنين واجهوا “تأخيرات ومضايقات” على الحدود. والأسوأ من ذلك، وردت أنباء عن احتجاز عائلة واحدة على الأقل، مما يسلط الضوء على المخاطر الكبيرة التي تحيط بهذه العملية. وتبرز هذه الأحداث التحدي الهائل الذي تواجهه واشنطن في حماية ومساعدة مواطنيها في بلد لا تربطها به أي علاقات دبلوماسية، وفي خضم صراع قد تجد الولايات المتحدة نفسها طرفاً فيه.
غياب العلاقات الدبلوماسية: تحدي الحماية القنصلية
لفهم حجم الصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة في مساعدة رعاياها، لا بد من العودة إلى تاريخ العلاقات المقطوعة بين البلدين. منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وأزمة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران التي استمرت 444 يوماً، قُطعت العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين واشنطن وطهران في أبريل 1980. ومنذ ذلك الحين، لا يوجد أي تمثيل دبلوماسي أو قنصلي أمريكي مباشر في إيران.
وبدلاً من ذلك، تقوم سويسرا بدور “القوة الحامية” للمصالح الأمريكية في إيران، من خلال قسم رعاية المصالح الأمريكية في السفارة السويسرية بطهران. هذا الترتيب، وإن كان يوفر قناة اتصال محدودة، إلا أنه لا يمكن أن يعوض عن وجود سفارة وقنصلية قادرة على تقديم الدعم المباشر والفعال للمواطنين في أوقات الأزمات. إن عدم قدرة الدبلوماسيين الأمريكيين على العمل بحرية داخل إيران يجعل من الصعب للغاية التحقق من تقارير الاعتقالات، وتقديم المساعدة القانونية، وتسهيل عمليات الإجلاء. وفي بيانها الأخير، أكدت وزارة الخارجية أنها لا تخطط لعملية إجلاء حكومية لمواطنيها من إيران، مما يترك العبء الأكبر على الأفراد أنفسهم لتدبر أمورهم في بيئة معادية ومحفوفة بالمخاطر.
معضلة مزدوجي الجنسية: مواطنون في مهب الريح
تزداد القضية تعقيداً بالنسبة للأمريكيين من أصل إيراني الذين يحملون جنسية البلدين. فإيران لا تعترف بازدواجية الجنسية، وتعتبر هؤلاء الأفراد إيرانيين فقط. هذا الموقف القانوني يعرضهم لمخاطر جسيمة، حيث يمكن للسلطات الإيرانية أن تمنعهم من المغادرة، أو تصادر جوازات سفرهم الأمريكية، أو حتى تحتجزهم بتهم مختلفة مثل التجسس أو تهديد الأمن القومي، دون الاعتراف بحقهم في الحصول على مساعدة قنصلية أمريكية.
ولطالما كان مزدوجو الجنسية ورقة مساومة في يد السلطات الإيرانية. ففي السنوات الأخيرة، تم احتجاز العديد من الأمريكيين-الإيرانيين، ولم يتم إطلاق سراحهم إلا في إطار صفقات تبادل سجناء معقدة، كما حدث في سبتمبر 2023 عندما تم إطلاق سراح خمسة أمريكيين مقابل الإفراج عن أصول إيرانية مجمدة بمليارات الدولارات. هذا التاريخ الطويل من الاعتقالات التعسفية يجعل من محاولة أي مواطن أمريكي-إيراني مغادرة البلاد في ظل التوترات الحالية مغامرة محفوفة بالمخاطر. إنهم عالقون بين مطرقة جنسيتهم الأمريكية التي تجعلهم محط شبهة، وسندان جنسيتهم الإيرانية التي تحرمهم من الحماية الدولية.
السياق الإقليمي الأوسع: حالة من التأهب القصوى
لم تقتصر تداعيات التوتر بين إيران وإسرائيل على المواطنين الأمريكيين في إيران فحسب، بل امتدت لتشمل المنطقة بأسرها. فقد أعلنت العديد من الدول خططاً لإجلاء رعاياها من إسرائيل ولبنان، وأغلقت سفارات أبوابها بشكل مؤقت. فعلى سبيل المثال، أعلنت السفارة الأمريكية في القدس عن خطط لإجلاء رعاياها جواً وبحراً، في حين قامت دول أوروبية وآسيوية، مثل بولندا وألمانيا والهند، بتنظيم رحلات لإعادة مواطنيها.
هذه التحركات تعكس حالة من عدم اليقين والقلق تسود المنطقة، والخوف من أن يتوسع نطاق الصراع ليشمل أطرافاً أخرى. كما تظهر التقارير الصادرة من وسائل إعلام عربية وإقليمية أن دولاً خليجية مثل الكويت وسلطنة عمان قامت أيضاً بتسهيل عودة مواطنيها من إيران، مما يؤكد أن المخاوف لا تقتصر على الرعايا الغربيين. إن هذا النزوح الإقليمي الواسع يرسم صورة قاتمة لمستقبل قريب قد يشهد المزيد من التصعيد وعدم الاستقرار.
خاتمة
إن محنة مئات المواطنين الأمريكيين الذين يسعون جاهدين لمغادرة إيران هي أكثر من مجرد قصة إخبارية عابرة؛ إنها مرآة تعكس واقعاً جيوسياسياً معقداً وتاريخاً طويلاً من العداء. إنها تسلط الضوء على الهشاشة الإنسانية في مواجهة الصراعات الدولية، وتكشف عن التحديات الهائلة التي تواجهها الدبلوماسية في غياب قنوات الاتصال المباشرة. بالنسبة للعالم العربي، تحمل هذه الأزمة دروساً مهمة حول أهمية الاستقرار الإقليمي وضرورة إيجاد آليات فعالة لحل النزاعات قبل أن تصل إلى نقطة اللاعودة. إن مصير هؤلاء الأفراد، وخاصة مزدوجي الجنسية العالقين في منطقة رمادية قانونية وسياسية، يجب أن يكون بمثابة دعوة للمجتمع الدولي للعمل على حماية المدنيين وتجنيبهم ويلات الحروب بالوكالة والصراعات التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ففي نهاية المطاف، خلف كل جواز سفر وهوية وطنية، يقف إنسان يستحق الأمان والكرامة.
أسئلة شائعة (FAQs)
1. لماذا يغادر المواطنون الأمريكيون إيران بشكل جماعي؟
يغادر المواطنون الأمريكيون إيران بسبب تصاعد التوترات العسكرية بين إيران وإسرائيل، وإغلاق المجال الجوي الإيراني، مما دفعهم للبحث عن طرق برية للمغادرة خوفاً على سلامتهم.
2. ما هي الصعوبات التي يواجهونها أثناء محاولتهم المغادرة؟
يواجهون تأخيرات ومضايقات على الحدود البرية، كما وردت تقارير عن احتجاز بعضهم. الرحلة محفوفة بالمخاطر بسبب غياب الدعم القنصلي الأمريكي المباشر.
3. لماذا لا تعترف إيران بالجنسية المزدوجة للأمريكيين-الإيرانيين؟
وفقاً للقانون الإيراني، لا يتم الاعتراف بازدواجية الجنسية. لذا، تعتبر السلطات الإيرانية حاملي الجنسيتين إيرانيين فقط، مما يحرمهم من الحماية القنصلية الأمريكية ويعرضهم لخطر الاعتقال.
4. كيف تساعد الولايات المتحدة مواطنيها في إيران؟
بسبب عدم وجود علاقات دبلوماسية، فإن المساعدة محدودة جداً. تقوم سويسرا بدور حماية المصالح الأمريكية، لكن وزارة الخارجية حثت المواطنين على عدم الاعتماد على مساعدة الحكومة في الإجلاء، ونصحتهم بالمغادرة عبر الطرق البرية المتاحة.
5. هل هذه الأزمة تؤثر على دول أخرى في المنطقة؟
نعم، التوتر الإقليمي دفع العديد من الدول الأخرى إلى إجلاء رعاياها من إسرائيل ولبنان ودول مجاورة، وأدى إلى حالة من التأهب الأمني في جميع أنحاء الشرق الأوسط.