لطالما كانت العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل معقدة ومتعددة الأوجه، تتأرجح بين التحالف الاستراتيجي الثابت والخلافات العلنية. وفي قلب هذه العلاقة، يقف بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأطول خدمة، الذي اشتهر بقدرته الفريدة على اجتياز التحديات السياسية الداخلية والدولية، بما في ذلك المواجهات المتكررة مع الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين. فكيف تمكن نتنياهو، على مدى عقود، من الحفاظ على نفوذه وتحقيق أجندته، حتى عندما كانت واشنطن تبدي انزعاجها صراحةً؟ هذا السؤال يحمل أهمية قصوى للجمهور العربي، نظراً لتأثير هذه العلاقة على قضايا المنطقة المحورية، من القضية الفلسطينية إلى الاستقرار الإقليمي. ستغوص هذه المقالة في تاريخ مواجهات نتنياهو مع القادة الأمريكيين، محللةً استراتيجياته وعوامل صموده، وستقدم نظرة معمقة على كيفية استمراره في تشكيل المشهد السياسي بما يخدم رؤيته، حتى في أوقات التوتر الشديد.
جسر التوترات: تاريخ من المواجهات الدبلوماسية
لقد تميزت مسيرة بنيامين نتنياهو السياسية، منذ ولاياته الأولى كرئيس للوزراء، بنمط متكرر من الاحتكاك مع الإدارات الأمريكية. ففي كل حقبة رئاسية أمريكية، برزت قضايا خلافية كانت واشنطن تتوقع فيها مرونة أكبر من تل أبيب، لكن نتنياهو كان يصر على موقفه، مستنداً إلى ما يعتبره مصالح أمنية عليا لإسرائيل.
نمط التحدي: اللقاءات الأولى (كلينتون وبوش الابن)
بدأ هذا النمط مبكراً في عهد الرئيس بيل كلينتون، حيث شهدت العلاقات توترات حول عملية السلام في الشرق الأوسط وتوسيع المستوطنات. سعى نتنياهو في تلك الفترة إلى إعادة تعريف المفاوضات، مقدماً رؤيته الخاصة للأمن الإسرائيلي التي غالباً ما كانت تتعارض مع التوجهات الأمريكية التي كانت تركز على دفع عملية السلام. مع إدارة جورج دبليو بوش، ورغم التقارب الأيديولوجي في بعض الجوانب، استمرت نقاط الخلاف حول مسار الحل الدولتين وحجم الاستيطان. كان نتنياهو، حتى في هذه المراحل المبكرة، يظهر تصميماً على عدم التنازل عن قضايا يعتبرها حيوية لأمن إسرائيل، بغض النظر عن الضغوط الدبلوماسية. لقد رسخ هذا السلوك فكرة أنه زعيم لا يمكن ثنيه بسهولة، وهو ما سيصبح سمة مميزة لولاياته اللاحقة.
سنوات أوباما: اختبار الإرادة (الاتفاق النووي والمستوطنات)
بلغت التوترات ذروتها خلال رئاسة باراك أوباما، خصوصاً في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني وتوسع المستوطنات الإسرائيلية. كان أوباما يرى في الاتفاق النووي مع إيران (خطة العمل الشاملة المشتركة) سبيلاً لمنع طهران من امتلاك أسلحة نووية، بينما اعتبره نتنياهو “صفقة سيئة” تهدد وجود إسرائيل. تجسد هذا الخلاف في خطابه المثير للجدل أمام الكونغرس الأمريكي عام 2015، والذي دعاه إليه رئيس مجلس النواب آنذاك، جون بينر، دون تنسيق مع البيت الأبيض. هذه الخطوة، التي تجاوزت البروتوكولات الدبلوماسية، كانت بمثابة إعلان صريح عن تحدي نتنياهو للإدارة الأمريكية، وسلطت الضوء على قدرته على حشد الدعم داخل المؤسسة السياسية الأمريكية، حتى في وجه معارضة الرئيس. وعلى صعيد المستوطنات، استمر نتنياهو في سياسة التوسع، متحدياً الانتقادات الأمريكية المتكررة التي كانت ترى فيها عقبة أمام حل الدولتين. ورغم التمويل العسكري الأمريكي السنوي الذي بلغ مليارات الدولارات، لم تتمكن واشنطن من فرض رؤيتها على تل أبيب في هذه الملفات الجوهرية.
حقبة ترامب: توافق استراتيجي ودعم غير مسبوق
شكلت إدارة دونالد ترامب فترة استثنائية في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، حيث تحول نمط الصدام إلى توافق استراتيجي غير مسبوق. وجد نتنياهو في ترامب حليفاً قوياً يشاركه الرؤى حول قضايا إقليمية، لا سيما الموقف المتشدد تجاه إيران. تجلى هذا التوافق في قرارات أمريكية غير مسبوقة، مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان. كما ساهمت هذه الفترة في إبرام “اتفاقيات أبراهام” التي أدت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وهو إنجاز دبلوماسي كبير لنتنياهو. وعلى الرغم من هذا التوافق العام، حتى في عهد ترامب، كان نتنياهو يظهر أحياناً استقلالية في قراراته، محاولاً الاستفادة القصوى من الدعم الأمريكي دون التنازل عن أجندته الخاصة، خاصة فيما يتعلق بقضايا الأمن الإسرائيلي.
التعامل مع بايدن: توترات مألوفة، حقائق جديدة
بعد فترة ترامب، عادت التوترات إلى الظهور مع إدارة جو بايدن، خاصة في أعقاب أحداث 7 أكتوبر 2023 والحرب على غزة. ورغم الدعم الأمريكي الأولي لإسرائيل في حقها في الدفاع عن النفس، سرعان ما بدأت الخلافات تطفو على السطح، لا سيما بشأن حجم الدمار في غزة، الأزمة الإنسانية، خطط “اليوم التالي” للحرب، ومسألة حل الدولتين. بايدن، الذي يؤمن بشدة بحل الدولتين كسبيل وحيد لتحقيق سلام دائم، وجد نتنياهو يرفض علناً هذا الحل، مؤكداً على ضرورة السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن. هذه التصريحات زادت من حدة التوتر بين الزعيمين، لكن نتنياهو، مرة أخرى، أظهر إصراراً على موقفه، مستنداً إلى دعم قاعدته السياسية في إسرائيل. ورغم تراجع الدعم الشعبي لنتنياهو في إسرائيل بعد 7 أكتوبر، إلا أنه حافظ على قبضته على الائتلاف الحكومي، مما منحه مساحة لمواصلة تحدي الضغط الأمريكي.
عوامل الصمود: لماذا ينجح نتنياهو؟
إن قدرة نتنياهو على الصمود في وجه الرؤساء الأمريكيين ليست وليدة الصدفة، بل تستند إلى عدة عوامل رئيسية:
- القوة السياسية الداخلية: يتمتع نتنياهو بقدرة فائقة على تجميع ائتلافات حكومية يمينية قوية في إسرائيل، مما يمنحه تفويضاً شعبياً داخلياً لمقاومة الضغوط الخارجية. قاعدته الانتخابية ترى فيه حامي أمن إسرائيل ومصالحها، وهو ما يجعله قادراً على تحمل الانتقادات الدولية.
- نفوذ جماعات الضغط الموالية لإسرائيل: تلعب جماعات الضغط الأمريكية الموالية لإسرائيل، مثل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك)، دوراً مهماً في التأثير على الكونغرس والإدارة الأمريكية. هذه المنظمات تعمل على تعزيز العلاقات الأمريكية الإسرائيلية وتدعم السياسات التي تخدم مصالح إسرائيل، مما يخلق شبكة دعم قوية لنتنياهو في واشنطن.
- الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل للولايات المتحدة: تعتبر الولايات المتحدة إسرائيل حليفاً استراتيجياً رئيسياً في منطقة الشرق الأوسط المضطربة. توفر إسرائيل موطئ قدم استراتيجياً للمصالح الأمريكية، بالإضافة إلى تبادل المعلومات الاستخباراتية والشراكات التكنولوجية المتقدمة. هذه الأهمية تجعل من الصعب على أي إدارة أمريكية أن تضغط بقوة مفرطة على إسرائيل خوفاً من إضعاف هذا التحالف الحيوي.
- عقيدة “الأمن أولاً”: يتقن نتنياهو تأطير جميع القضايا من منظور “الأمن القومي” لإسرائيل، وهو خطاب يتردد صداه بقوة لدى العديد من الساسة الأمريكيين والجمهور. فتركيزه المستمر على التهديدات الوجودية لإسرائيل (مثل إيران) يبرر في نظره سياساته الصارمة.
- الدبلوماسية والخطاب الماهر: يتمتع نتنياهو بمهارات خطابية ودبلوماسية عالية، تسمح له بالتواصل مباشرة مع الجمهور الأمريكي والكونغرس، متجاوزاً أحياناً البيت الأبيض. لقد أظهر قدرة على تقديم حججه بفعالية، حتى عندما كانت تتعارض مع سياسات الإدارة الأمريكية الحالية.
الخلاصة
إن مسيرة بنيامين نتنياهو مع الرؤساء الأمريكيين هي شهادة على فن البقاء والمقاومة في عالم الدبلوماسية المعقد. على الرغم من فترات الخلافات الشديدة، تمكن نتنياهو باستمرار من تحقيق أجندته السياسية، مستفيداً من مزيج فريد من الدعم الداخلي القوي، والنفوذ الدبلوماسي، والأهمية الاستراتيجية لإسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة. هذا النمط المتكرر من المواجهة والصمود يلقي بظلاله على ديناميكيات السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، ويشكل تحدياً مستمراً لواشنطن في سعيها لتحقيق أهدافها الإقليمية. فهم هذه العلاقة المعقدة يصبح أمراً حتمياً لكل من يتابع قضايا الشرق الأوسط، حيث يستمر نتنياهو في لعب دور محوري في تشكيل مستقبل المنطقة، غالباً وفقاً لشروطه الخاصة.
أسئلة متكررة (FAQs)
س1: لماذا غالباً ما يتصادم نتنياهو مع الرؤساء الأمريكيين؟ ج1: تتصادم رؤى نتنياهو غالباً مع الرؤساء الأمريكيين حول قضايا مثل عملية السلام، توسع المستوطنات، والتعامل مع إيران، حيث يعطي نتنياهو الأولوية القصوى لما يعتبره مصالح أمنية حيوية لإسرائيل.
س2: ما هي أبرز نقاط الخلاف بين نتنياهو والرئيس أوباما؟ ج2: كان الاتفاق النووي الإيراني وتوسع المستوطنات الإسرائيلية أبرز نقطتي خلاف رئيسيتين بين نتنياهو والرئيس أوباما، حيث عارض نتنياهو بشدة الاتفاق النووي وواصل سياسة الاستيطان.
س3: كيف اختلفت إدارة ترامب عن الإدارات الأخرى في علاقتها بنتنياهو؟ ج3: تميزت إدارة ترامب بتوافق استراتيجي ودعم غير مسبوق لنتنياهو، شمل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة، بالإضافة إلى إبرام اتفاقيات أبراهام.
س4: ما هي نقطة التوتر الحالية بين نتنياهو والرئيس بايدن؟ ج4: تتركز التوترات الحالية بين نتنياهو وبايدن بشكل خاص حول إدارة الحرب في غزة، الأزمة الإنسانية، ورفض نتنياهو العلني لحل الدولتين.
س5: ما هي العوامل التي تساهم في صمود نتنياهو السياسي رغم هذه الخلافات؟ ج5: يساهم في صموده قوته السياسية الداخلية في إسرائيل، ونفوذ جماعات الضغط الموالية لإسرائيل في الولايات المتحدة، والأهمية الاستراتيجية لإسرائيل لواشنطن، بالإضافة إلى براعته الدبلوماسية وخطابه الأمني.
المصادر
- World reacts to US attacks on Iran | Israel-Iran conflict News | Al Jazeera
- Netanyahu using Iran war to stay in power ‘forever’: former US president Clinton
- Obama, Netanyahu on collision course 6 years in the making | PBS News
- US attacks Iran: How Trump rejoined ‘team’ Netanyahu | Donald Trump News – Al Jazeera
- Biden reiterates to Netanyahu the need for a two-state solution – El Pais (English) – EL PAÍS
- Israel-US attack on Iran: The price of Netanyahu’s forever wars | Middle East Eye
- An Analysis of the Power of the American Israel Public Affairs Committee – Illinois State University
- U.S.–Israel Strategy: From Special Relationship to Strategic Partnership, 2029–2047 – The Heritage Foundation
- Watch and read: Netanyahu’s full speech to Congress | The Times of Israel