تشهد منطقة الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة تصعيداً غير مسبوق في التوترات، لاسيما بعد الضربات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على مواقع نووية إيرانية رئيسية. يأتي هذا التطور ليُلقي بظلاله على استقرار المنطقة الهش أصلاً، ويُعيد إلى الواجهة المخاوف من الانجرار إلى صراع أوسع نطاقاً قد تتجاوز تداعياته الحدود الإقليمية لتصل إلى المستوى العالمي. تُعد هذه اللحظة مفصلية تتطلب تحليلًا عميقًا للمواقف الدولية، وفي طليعتها الموقف التركي الذي أعلن صراحة تحذيراته من عواقب وخيمة. يهدف هذا المقال إلى استعراض تفاصيل هذه التطورات، وتحليل الموقف التركي الدبلوماسي، واستكشاف التداعيات المحتملة لهذا التصعيد على المنطقة والعالم، مع تقديم رؤى وتحليلات تستند إلى أحدث المعلومات المتاحة. إن فهم هذه الديناميكيات المعقدة أمر حيوي للجماهير العربية، التي تُعد من أكثر المتأثرين بأي اضطرابات في هذه الرقعة الجغرافية الحساسة.
التوترات المتصاعدة في المنطقة: الشرارة والردود
في تصعيد عسكري مفاجئ وخطير، شنت الولايات المتحدة الأمريكية في وقت مبكر من يوم الأحد الموافق 22 يونيو 2025، سلسلة من الضربات الجوية على ثلاثة مواقع نووية إيرانية رئيسية هي: فوردو، ونطنز، وأصفهان. وقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقب هذه الضربات أن هذه المنشآت النووية الإيرانية “قد تم القضاء عليها بالكامل تماماً”، مهددًا بمزيد من الضربات إذا لم “تتوصل طهران إلى سلام”. وجاءت هذه الضربات، التي استخدمت فيها قاذفات الشبح B-2 Spirit وقنابل GBU-57 الخارقة للتحصينات، لتكثف الدور الأمريكي في الصراع المتصاعد بين إسرائيل وإيران، وتضع المنطقة على حافة الهاوية.
لم تتأخر ردود الفعل الإيرانية. فقد أدانت طهران الضربات الأمريكية بشدة، واصفة إياها بـ “الاعتداء الوحشي” و”الانتهاك الجسيم لميثاق الأمم المتحدة”. وصرح وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، أن “زمن الدبلوماسية قد ولى”، متعهدًا برد قاسٍ ومؤكدًا أن إيران “تحتفظ بجميع الخيارات للدفاع عن سيادتها ومصالحها وشعبها”. كما أعلن عراقجي عن زيارة عاجلة إلى موسكو للتشاور مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في إشارة إلى خطورة الوضع واستعداد طهران لاستكشاف خياراتها الاستراتيجية. وقد أكدت منظمة الطاقة الذرية الإيرانية أن المواقع النووية قد تعرضت للهجوم، لكنها شددت على أن البلاد لن توقف تطوير برنامجها النووي.
تجاوزت هذه التطورات الساحة الإيرانية-الأمريكية لتثير ردود فعل دولية واسعة النطاق. أعرب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن “قلقه البالغ من استخدام الولايات المتحدة للقوة ضد إيران”، واصفًا ذلك بـ “التصعيد الخطير في منطقة على وشك الانفجار، وتهديد مباشر للسلم والأمن الدوليين”. ودعا غوتيريش جميع الدول الأعضاء إلى “تهدئة التصعيد والالتزام بالتزاماتها بموجب ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية الأخرى”. كما دعت العديد من الدول العربية والإقليمية، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر ومصر والعراق ولبنان وعمان، إلى ضبط النفس وتجنب المزيد من التصعيد واللجوء إلى الحلول الدبلوماسية. في المقابل، أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر دعمه لقرار الولايات المتحدة، معتبرًا أن برنامج إيران النووي يشكل “تهديدًا خطيرًا للأمن الدولي”.
الموقف التركي: تحذيرات من الانجرار للصراع
كان الموقف التركي من الضربات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية واضحًا وحازمًا، ومبنيًا على قلق عميق من تداعياتها المحتملة. فبعد ساعات قليلة من الإعلان عن الضربات، أصدرت وزارة الخارجية التركية بيانًا رسميًا أعربت فيه عن “قلقها العميق إزاء العواقب المحتملة للهجوم الأمريكي على المنشآت النووية لجمهورية إيران الإسلامية”. وشدد البيان على أن “التطورات الجارية قد تؤدي إلى تصعيد الصراع الإقليمي ليتحول إلى صراع عالمي”، مؤكدًا أن أنقرة “لا تريد أن يتحقق هذا السيناريو الكارثي”.
لم يكتفِ البيان التركي بالتحذير، بل دعا جميع الأطراف المعنية إلى “التصرف بمسؤولية، ووقف الهجمات على الفور، والامتناع عن الإجراءات التي قد تؤدي إلى مزيد من الخسائر في الأرواح والدمار”. ويأتي هذا الموقف ليؤكد النهج التركي الثابت في الدعوة إلى الحلول الدبلوماسية للأزمات الإقليمية. فقد أكدت أنقرة مرارًا وتكرارًا أن “السبيل الوحيد لحل النزاع حول البرنامج النووي الإيراني هو عبر المفاوضات”، مبديةً استعدادها “لتحمل مسؤولياتها وتقديم مساهمات بناءة” في هذا الصدد.
لم يكن هذا الموقف مجرد رد فعل آني، بل هو جزء لا يتجزأ من سياسة تركيا الخارجية التي تسعى جاهدة لتجنب الانجرار إلى صراعات إقليمية أوسع، مع الحفاظ على دورها كوسيط محتمل. وقد سعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى خفض التصعيد، وأجرى عدة مكالمات هاتفية مع قادة رئيسيين، بمن فيهم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ومن خلال هذه المحادثات، وضع أردوغان نفسه كوسيط محتمل، عارضًا استضافة محادثات نووية بين الولايات المتحدة وإيران في إسطنبول. ويعكس هذا العرض رغبة تركيا المستمرة في تسهيل الحوار لحل الأزمات الإقليمية.
إن حرص تركيا على عدم إدانة الضربات الأمريكية بشكل صريح، بالرغم من تحذيراتها الشديدة، يعكس توازنًا دقيقًا في سياستها الخارجية. فأنقرة، بصفتها عضوًا في حلف الناتو، تحافظ على علاقات قوية مع واشنطن، بينما تسعى في الوقت ذاته إلى الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع طهران، نظرًا لمصالحها الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة. تسعى تركيا إلى تجنب الانحياز لأي طرف في صراع قد يهدد أمنها واستقرارها الإقليمي، وتفضل بدلاً من ذلك، أن تلعب دورًا بناءً في التخفيف من حدة التوترات وتشجيع الحوار.
جذور العلاقات المعقدة بين واشنطن وأنقرة وطهران
تُعد العلاقات بين واشنطن وأنقرة وطهران شبكة معقدة من المصالح المتشابكة والتنافسات التاريخية، التي تحدد إلى حد كبير كيفية تفاعل هذه القوى مع الأزمات الإقليمية. لفهم الموقف التركي الحالي من الضربات الأمريكية على إيران، من الضروري استعراض جذور هذه العلاقات التي تتسم بالديناميكية والتغير المستمر.
تاريخيًا، تُعد تركيا حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة ضمن حلف الناتو، وقد شكلت هذه الشراكة ركيزة للأمن الإقليمي لعقود. ومع ذلك، شهدت العلاقات الثنائية توترات في السنوات الأخيرة بسبب قضايا متعددة، مثل شراء تركيا لمنظومة الدفاع الصاروخي الروسية S-400، ودعم واشنطن لوحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، التي تعتبرها أنقرة امتدادًا لحزب العمال الكردستاني الإرهابي. بالرغم من هذه التوترات، يحرص الطرفان على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة، وتسعى أنقرة إلى الحفاظ على علاقة جيدة مع الإدارة الأمريكية، لاسيما في ظل تطلعاتها الاقتصادية والاستثمارية.
من جانب آخر، تتسم علاقة تركيا بإيران بالتعاون التنافسي. فكلا البلدين قوتان إقليميتان تسعيان لتوسيع نفوذهما في الشرق الأوسط، ولكن لديهما أيضًا مصالح مشتركة في مجالات مثل الطاقة والتجارة. تاريخيًا، تجنبت أنقرة وطهران الدخول في صراع مباشر، مفضلين إدارة خلافاتهما عبر الحوار والتعاون في قضايا معينة. فتركيا تعارض بشدة امتلاك إيران لسلاح نووي، وتعتبره خطرًا على الأمن الإقليمي، إلا أنها في الوقت نفسه تؤكد على أن الحل الوحيد لهذه القضية يجب أن يكون دبلوماسيًا. هذا التوازن الدقيق يسمح لتركيا بأن تلعب دور الوسيط، مما يمنحها نفوذًا في كل من واشنطن وطهران.
أما العلاقة الأمريكية الإيرانية، فهي تاريخ طويل من التوتر والعداء، تفاقم بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني (خطة العمل الشاملة المشتركة) في عام 2018 وإعادة فرض العقوبات. تهدف السياسة الأمريكية المعلنة إلى منع إيران من حيازة أسلحة نووية واحتواء نفوذها الإقليمي، بينما ترى طهران في السياسات الأمريكية محاولة لتقويض نظامها وتهديد أمنها القومي. إن هذه الخلفية المعقدة تجعل أي تصعيد عسكري، مثل الضربات الأخيرة، أمرًا بالغ الخطورة، لأنه قد يكسر أي أمل في الحلول الدبلوماسية ويدفع الأطراف نحو مواجهة شاملة.
في هذا السياق، تبرز سياسة تركيا الخارجية المعاصرة، التي أعادت تعريف أولوياتها نحو “إعادة التوازن” في المنطقة منذ عام 2021. فبعد سنوات من سياسة أكثر مواجهة، تحولت أنقرة إلى نهج أكثر براغماتية يركز على المصالح الاقتصادية ويسعى لتطبيع العلاقات مع الخصوم الإقليميين السابقين مثل الإمارات ومصر والسعودية. هذا التحول يعكس إدراك أنقرة بأن العزلة الإقليمية ليست مستدامة، وأن التعاون الاقتصادي هو مفتاح استقرارها. وبالرغم من هذا التوجه، فإن تركيا لا تتخلى عن مصالحها الاستراتيجية، لاسيما في سوريا والعراق، حيث تتنافس مع إيران على النفوذ. هذا التموضع الدقيق يسمح لتركيا بمواصلة لعب دور الوسيط والدعوة إلى الدبلوماسية حتى في أشد الأوقات توترًا، مع تجنب الانحياز التام لأي طرف في الصراع.
تداعيات التصعيد المحتملة على المنطقة
إن تصعيد النزاع بين الولايات المتحدة وإيران، ووصوله إلى مستوى الضربات العسكرية المباشرة، يحمل في طياته تداعيات كارثية محتملة على منطقة الشرق الأوسط، بل وعلى الأمن العالمي. المنطقة، التي لا تزال تعاني من آثار صراعات متعددة، ستكون أول من يدفع الثمن.
أولًا، على الصعيد الأمني، فإن أي تصعيد عسكري واسع النطاق سيهدد بزعزعة الاستقرار الهش القائم في عدة دول إقليمية. يمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة في الهجمات الانتقامية من قبل وكلاء إيران في المنطقة، مثل حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والفصائل العراقية المسلحة، ضد المصالح الأمريكية والإسرائيلية، مما يدخل المنطقة في حلقة مفرغة من العنف. كما أن هذا التصعيد قد يؤدي إلى توسع رقعة الصراع إلى دول مجاورة، لاسيما تلك التي تستضيف قواعد عسكرية أمريكية أو لديها حدود طويلة مع إيران، مما يحولها إلى ساحات معارك جديدة.
ثانيًا، على الصعيد الاقتصادي، ستكون التداعيات وخيمة. يعتبر مضيق هرمز، الذي يمر عبره جزء كبير من النفط والغاز الطبيعي المسال العالمي، شريان الحياة للاقتصاد العالمي. أي تهديد لإغلاق المضيق، أو حتى تعطيل حركة الملاحة فيه، سيؤدي إلى ارتفاع جنوني في أسعار النفط العالمية، مما سيؤثر سلبًا على الاقتصاديات المستوردة للنفط ويسبب ركودًا عالميًا محتملًا. كما أن الاستثمارات الأجنبية ستتراجع بشكل كبير في المنطقة، مما يزيد من البطالة ويضر بجهود التنمية الاقتصادية في الدول التي تسعى إلى جذب رؤوس الأموال.
ثالثًا، ستكون هناك تداعيات إنسانية وبيئية. أي صراع واسع النطاق سيتسبب في موجات نزوح جديدة للاجئين، مما يزيد العبء على الدول المضيفة التي تعاني أصلاً من أزمات إنسانية. كما أن البنية التحتية المدنية ستكون عرضة للدمار، مما يحرم الملايين من الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم. على الصعيد البيئي، يمكن أن تؤدي العمليات العسكرية إلى كوارث بيئية، مثل تسرب النفط في الخليج، مما يدمر الحياة البحرية ويؤثر على سبل عيش المجتمعات الساحلية.
رابعًا، على الصعيد السياسي والدبلوماسي، فإن الضربات الأمريكية تقوض بشكل كبير أي جهود دبلوماسية متبقية لحل النزاع حول البرنامج النووي الإيراني. وقد صرح وزير الخارجية الإيراني بالفعل أن “زمن الدبلوماسية قد ولى”، مما يشير إلى أن طهران قد تتجه نحو خيارات أكثر تصادمية. هذا الوضع يجعل من الصعب على القوى الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، ممارسة نفوذها لتهدئة الأوضاع، ويزيد من الانقسامات داخل المجتمع الدولي حول كيفية التعامل مع هذه الأزمة.
أخيرًا، قد يؤدي هذا التصعيد إلى سباق تسلح إقليمي، حيث قد تسعى الدول الأخرى في المنطقة إلى تعزيز قدراتها العسكرية لمواجهة التهديدات المتزايدة، مما يزيد من عدم الاستقرار ويزيد من احتمالية نشوب صراعات مستقبلية. كل هذه العوامل تشير إلى أن الضربات الأخيرة تمثل نقطة تحول خطيرة قد تدفع المنطقة إلى مستويات غير مسبوقة من الفوضى والعنف.
الدور الدبلوماسي التركي في خفض التصعيد
لطالما كانت تركيا لاعبًا نشطًا في الدبلوماسية الإقليمية، ساعيةً إلى ترسيخ مكانتها كقوة محورية قادرة على الوساطة في النزاعات المعقدة. في سياق التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة وإيران، برز الدور الدبلوماسي التركي كصوت عقلاني يدعو إلى خفض التصعيد والعودة إلى طاولة المفاوضات.
إن السياسة الخارجية التركية، خاصة في عهد الرئيس أردوغان، اتسمت بمحاولة الموازنة بين المصالح الاستراتيجية المعقدة. فمن جهة، تُعد تركيا حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة ضمن حلف الناتو، مما يمنحها نفوذًا وشرعية دولية. ومن جهة أخرى، تحتفظ بعلاقات براغماتية مع إيران، مدفوعةً بمصالح اقتصادية وجيوسياسية مشتركة، على الرغم من نقاط التنافس في مناطق مثل سوريا. هذه الديناميكية تسمح لأنقرة بالاضطلاع بدور الوسيط الذي قد لا يكون متاحًا لدول أخرى في المنطقة.
تجلت محاولات أنقرة في خفض التصعيد فور وقوع الضربات الأمريكية. فقد سارعت وزارة الخارجية التركية إلى إصدار بيان يدعو إلى “وقف الهجمات فورًا” و”الامتناع عن الإجراءات التي قد تؤدي إلى مزيد من الخسائر في الأرواح والدمار”. هذا البيان، الذي تجنب إدانة صريحة لأي طرف، عكس الرغبة التركية في الحفاظ على موقف محايد يسمح لها بممارسة الضغط الدبلوماسي على الطرفين.
لم يقتصر الدور التركي على البيانات الرسمية. فقد أكدت المصادر أن الرئيس أردوغان أجرى اتصالات مكثفة مع كل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الإيراني مسعود بزشكيان. هدفت هذه المحادثات إلى فهم وجهات نظر الطرفين وحثهما على ضبط النفس. الأهم من ذلك، أن تركيا قدمت عرضًا لاستضافة محادثات نووية بين الولايات المتحدة وإيران في إسطنبول، في محاولة لإحياء المسار الدبلوماسي الذي يبدو أنه قد تعثر. إن هذا العرض يعكس إيمان أنقرة الراسخ بأن التفاوض هو الحل الوحيد الممكن للنزاع حول البرنامج النووي الإيراني، وبأن التصعيد العسكري لن يؤدي إلا إلى نتائج كارثية.
تُعتبر هذه المبادرة التركية امتدادًا لدورها التقليدي في الوساطة، كما حدث في السابق في ملفات إقليمية ودولية أخرى. تسعى تركيا إلى تجنب تحول الصراع الإقليمي إلى صراع عالمي، وهو السيناريو الذي حذرت منه صراحة. إن موقع تركيا الجغرافي، كونها جسرًا بين الشرق والغرب، بالإضافة إلى عضويتها في حلف الناتو وعلاقاتها التاريخية والثقافية مع دول المنطقة، يمنحها وضعًا فريدًا يمكنها من خلاله لعب دور فعال في التخفيف من حدة الأزمات.
ومع ذلك، يواجه الدور الدبلوماسي التركي تحديات كبيرة. ففي ظل تعنت المواقف وتصاعد الخطاب من الجانبين، قد يكون من الصعب إقناع طهران وواشنطن بالعودة إلى طاولة المفاوضات في الوقت الراهن. ومع ذلك، فإن إصرار تركيا على الحوار وتفادي التصعيد يُعد عنصرًا حيويًا للحفاظ على بصيص أمل في تحقيق الاستقرار في منطقة تُعد الأكثر اضطرابًا في العالم.
السيناريوهات المستقبلية ومستقبل الاستقرار الإقليمي
تُشكل الضربات الأمريكية الأخيرة على المنشآت النووية الإيرانية نقطة تحول قد تحدد مسار الاستقرار الإقليمي لسنوات قادمة. هناك عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل الوضع، تتوقف بشكل كبير على ردود الفعل اللاحقة من الأطراف المعنية وقدرة الدبلوماسية على التدخل.
السيناريو الأول: التصعيد المحدود والتحكم في الوضع. في هذا السيناريو، قد تختار إيران ردًا محدودًا ومتناسبًا على الضربات الأمريكية، ربما من خلال وكلاءها في المنطقة أو عبر هجمات سيبرانية، دون اللجوء إلى تصعيد عسكري مباشر وواسع النطاق ضد المصالح الأمريكية. تهدف إيران في هذه الحالة إلى إظهار قدرتها على الرد دون استفزاز رد أمريكي أكبر. وفي المقابل، قد تمتنع الولايات المتحدة عن شن المزيد من الضربات واسعة النطاق، معتمدة على مبدأ “الردع” الذي تحاول فرضه. قد يتضمن هذا السيناريو جهودًا دبلوماسية مكثفة خلف الكواليس، ربما بتسهيل من دول مثل تركيا أو عمان، لإعادة الأطراف إلى نوع من التفاوض أو التهدئة. هذا السيناريو هو الأكثر تفضيلًا من قبل المجتمع الدولي لتجنب كارثة إقليمية.
السيناريو الثاني: الانزلاق نحو صراع إقليمي شامل. هذا هو السيناريو الأكثر قلقًا، وهو ما تحذر منه تركيا والكثير من القوى الدولية. في حال اختارت إيران ردًا عسكريًا كبيرًا ومباشرًا، أو استهدفت مصالح أمريكية حساسة بشكل يؤدي إلى سقوط ضحايا كبار، فمن المرجح أن ترد الولايات المتحدة بقوة أكبر، مما قد يدخل الطرفين في حرب إقليمية واسعة. قد يشمل هذا السيناريو ضربات متبادلة على البنية التحتية الحيوية، وحروب بالوكالة في مناطق متعددة (سوريا، العراق، اليمن، لبنان)، وتهديدًا بحركة الملاحة في مضيق هرمز. ستكون تداعيات هذا السيناريو كارثية على جميع المستويات: اقتصاديًا، وإنسانيًا، وأمنيًا، مما يؤدي إلى عدم استقرار لا يمكن السيطرة عليه ويزيد من تفاقم الأزمات الحالية في المنطقة.
السيناريو الثالث: العودة إلى طاولة المفاوضات تحت ضغط. في هذا السيناريو، وبعد فترة من التوتر والتصعيد المحدود، قد تدرك الأطراف أن الخيارات العسكرية مكلفة للغاية ولا تصب في مصلحة أي منهم. تحت الضغط الدولي المكثف، والوساطة الفعالة من دول مثل تركيا وروسيا، قد تعود واشنطن وطهران إلى طاولة المفاوضات. قد يكون الهدف هو التوصل إلى اتفاق جديد للحد من البرنامج النووي الإيراني، أو على الأقل، التوصل إلى تفاهمات لخفض التصعيد ومنع المزيد من المواجهة. يتطلب هذا السيناريو مرونة كبيرة من جميع الأطراف وقدرة على التنازل.
إن مستقبل الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط يعتمد بشكل كبير على الخيار الذي ستتبناه الأطراف الرئيسية في الأيام والأسابيع القادمة. فالدبلوماسية، بالرغم من التحديات الهائلة، تظل السبيل الوحيد لتجنب كارثة إقليمية وعالمية. إن تركيا، بجهودها الدبلوماسية المستمرة وموقفها الحذر، تسعى إلى إبقاء هذا الخيار مفتوحًا، ولكن فعالية هذه الجهود ستعتمد على استعداد واشنطن وطهران لتقديم تنازلات والبحث عن حلول سلمية.
خاتمة
إن الضربات الأمريكية الأخيرة على المنشآت النووية الإيرانية تمثل نقطة تحول حرجة في ديناميكيات الشرق الأوسط، وتضع المنطقة على شفير صراع أوسع قد تتجاوز تداعياته الحدود الإقليمية. لقد كان الموقف التركي، المتميز بقلقه العميق وتحذيراته الصريحة من الانجرار إلى “صراع عالمي كارثي”، بمثابة صدى للمخاوف الدولية المتزايدة. فأنقرة، بفضل موقعها الجغرافي ودورها الدبلوماسي الذي يسعى للموازنة بين حلفائها الغربيين ومصالحها الإقليمية، تدعو بثبات إلى الحوار والمفاوضات باعتبارهما السبيل الوحيد لحل النزاع حول البرنامج النووي الإيراني.
لقد أوضح المقال أن العلاقات المعقدة بين واشنطن وأنقرة وطهران، والتي تتداخل فيها المصالح الاستراتيجية والتنافسات التاريخية، تجعل من أي تصعيد عسكري مسألة بالغة الخطورة. فالتداعيات المحتملة لهذا التصعيد، سواء على الصعيد الأمني أو الاقتصادي أو الإنساني، تبدو وخيمة وقد تؤدي إلى فوضى عارمة وسباق تسلح إقليمي يهدد استقرار المنطقة لعقود قادمة.
في الختام، يظل مصير الشرق الأوسط رهينًا بقدرة الأطراف الفاعلة على التحلي بضبط النفس وتقديم الدبلوماسية على المواجهة العسكرية. إن الجهود التركية، جنبًا إلى جنب مع الدعوات الدولية المتزايدة للحوار، يجب أن تُعزز لدفع الأطراف نحو حل سلمي. إنها دعوة ملحة لجميع المعنيين لتقدير حجم المخاطر والعمل بجدية من أجل التهدئة والبحث عن أرضية مشتركة، قبل أن تنجرف المنطقة إلى هاوية لا رجعة فيها، ويكون الثمن باهظًا على شعوبها وعلى الأمن والسلم العالميين.
أسئلة شائعة
س1: ما هي المواقع النووية الإيرانية التي استهدفتها الضربات الأمريكية الأخيرة؟ ج1: استهدفت الضربات الأمريكية الأخيرة ثلاثة مواقع نووية إيرانية رئيسية وهي: فوردو، ونطنز، وأصفهان.
س2: ما هو الموقف الرسمي التركي من الضربات الأمريكية على إيران؟ ج2: أعربت تركيا عن “قلقها العميق” من الضربات، وحذرت من أن هذه التطورات قد تصعد الصراع الإقليمي إلى صراع عالمي، ودعت جميع الأطراف إلى ضبط النفس والعودة إلى المفاوضات.
س3: لماذا تسعى تركيا للعب دور الوسيط بين الولايات المتحدة وإيران؟ ج3: تسعى تركيا للوساطة للحفاظ على استقرار المنطقة وتجنب تصعيد النزاع الذي يهدد مصالحها الأمنية والاقتصادية، كما أنها تؤمن بأن الحوار هو السبيل الوحيد لحل القضايا العالقة.
س4: ما هي أبرز التداعيات الاقتصادية المحتملة لتصعيد النزاع في المنطقة؟ ج4: أبرز التداعيات الاقتصادية تشمل الارتفاع الجنوني في أسعار النفط عالميًا بسبب تهديد حركة الملاحة في مضيق هرمز، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، وزيادة البطالة.
س5: هل هناك أمل في عودة المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران؟ ج5: بالرغم من تعثر الدبلوماسية وتصاعد الخطاب، لا يزال هناك أمل في عودة المفاوضات تحت الضغط الدولي، وإدراك الأطراف لتكلفة الخيارات العسكرية، مما قد يدفعهم نحو التوصل إلى تفاهمات.
المصادر
- Sky News. (2025, June 22). ‘Stability in Middle East is priority,’ says Starmer – as world reacts to strikes. https://news.sky.com/story/stability-in-middle-east-is-priority-says-starmer-as-he-calls-on-iran-to-return-to-negotiating-table-13386950
- Times of India. (2025, June 22). Global powers urge restraint after US strikes Iran; Tehran vows retaliation; PM Modi, Starmer, Erdogan respond to crisis. https://timesofindia.indiatimes.com/world/middle-east/global-powers-urge-restraint-after-us-strikes-iran-tehran-vows-retaliation-pm-modi-starmer-erdogan-respond-to-crisis/articleshow/122005716.cms
- Ahram Online. (2025, June 22). UPDATED: Arab and regional powers voice concern over US strikes on Iran, call for restraint and diplomacy. https://english.ahram.org.eg/News/548403.aspx
- Middle East Eye. (2025, June 22). Why has Turkey stopped short of condemning the US strikes on Iran? https://www.middleeasteye.net/news/turkey-response-us-attack-iran-nuclear-sites
- Republic of Türkiye Ministry of Foreign Affairs. (2025, June 22). No: 125, 22 June 2025, Regarding the US Attack on Iran’s Nuclear Facilities. https://www.mfa.gov.tr/no_-125_-abd-nin-iran-in-nukleer-tesislerine-gerceklestirdigi-saldiri-hk.en.mfa